في ظل الانقسامات المذهبية والطائفية التي تنخر جسده وتكاد تفتك به، لتبعده عن تاريخه، وتهدد جغرافيته، وتخرجه عن مسار الحداثة والتطور معيدة إياه إلى عصور ظلامية لا تنتمي إلى العصر الحديث بأي صلة.
يرمز الروائي في عمله (فضاءات، الأردن 2015) إلى أن أشد ما يتهدد بلاده تلك الأوبئة الداخلية التي تجتاح أهله، وتبقي منسوب العداء والكراهية في تصعيد دائم، بحيث لا يخرج من حرب إلا ليدخل أخرى، ويشير إلى أن أخطر الحروب وأكثرها شراسة هي تلك التي تنشب بين أبناء البلد الواحد، لأنها تبقي نهر الدماء في جريان دائم.
يختار كمال الدين (1954) اسمه ليطلقه على بطل روايته، بحيث يحيل إلى التماهي بينهما، ويوهم أنه بصدد كتابة جانب من سيرته الذاتية، تلك التي تضيء على محطات من سيرة وطنه، وانتقاله من حقبة إلى أخرى، والمتغيرات التي كان يمر بها، وبعض الأحداث التي كانت تؤثر على بنيته، وتهدد وجوده في كل مرحلة.
يهتم كمال الدين بالغوص في لا وعي شخصيته، ينقل اعترافات راويه وشهادته الدموية على عصره، وهو الذي يبدو متناسخا، ناقلا لسير أسر وعوائل بأكملها، وكأنه استحضار للعراقي الشاهد الشهيد على ما يراه ويعايشه من دون أن يملك القوة على تغييره، أو التأثير في مجرياته.
“يختار حازم كمال الدين اسمه ليطلقه على بطل روايته، بحيث يحيل إلى التماهي بينهما، ويوهم أنه بصدد كتابة جانب من سيرته الذاتية، تلك التي تضيء على محطات من سيرة وطنه، وانتقاله من حقبة إلى أخرى”
يقضي الراوي في قصف أميركي على سوق شعبية، يكون حينذاك قد أمضى وقتا في استرجاع كثير من الأحداث والذكريات التي سكنته وشكلت تفاصيل حياته، يغوص في تجاويف الذاكرة وأنفاق اللاوعي، يستعيد ملامح من أزمنة مختلفة بعيدة وقريبة بنوع من المراجعة التاريخية، والمساءلة المبطنة، بما يفسح المجال للتساؤل عن الحاضر ومتاهاته.
دهاليز الذاكرة
والمتاهة بالنسبة لبطل الرواية هي لعنة حاضره، وتركة ماضيه، فالابن المنحدر من عائلة كبيرة يمضي لمصيره المحتوم، لا تسعفه النيران المتأججة في داخله لتغيير مساره، يتوه في دهاليز الذاكرة محاولا استلهام عبر واستقاء دروس يمكن الإفادة منها في واقعه، من دون أن يستدل على ذلك.
يحكي الراوي رحلة دفن أحد الموتى إلى مسقط رأسه في الجنوب، وكيف يضطر أهله إلى تزوير هوياتهم وبطاقات التعريف بهم ليتمكنوا من تجاوز الحواجز التي تقطع أوصال البلاد، وتكون تلك الرحلة ذريعة لكشف المخبوء، ووسيلة لإلقاء الضوء على واقع تقسيم المدن والمناطق وتقاسمها بين المتحاربين، وينوه إلى فكاهة نسيان بطاقة الميت، وما تسبب به ذلك من مأساة لأهله ومشيعيه.
يسعى الراوي للاحتجاج على حوادث ماضية، يؤكد أنه لن يفشل في الصراخ بحقيقة أن ما أجج غضب الدكتاتور هو اعتراض والده على قرارة كتابة اسمه على أحجار بابل، وهو غضب جعله يقرر إبادة الجزء الأكبر من العائلة، ودق إسفين عداوة أبدية في الجزء المتبقي.
يتذكر بألم أن الدكتاتور قلده وسام الدولة الأول يوم إعدام عمه وكرم أباه بلا سبب، ثم رماه بعد عامين في حوض تيزاب أذابه.
“يستعن كمال الدين في روايته -التي اختيرت ضمن القائمة الطويلة لـ”البوكر العربية” 2016- بصور وخرائط وملصقات، يكون مهموما بالتجريب الفني والأسلوبي، يلجأ إلى الكولاج ليكون وسيلة لتأكيد محاكاة الواقع”
تسمم وتلوث
يذكر كمال الدين ببعض العادات والتقاليد والأعراف المتوارثة في العراق، يسرد حكايات تستبطن سخرية سوداء مريرة، وتعبر عن الضراوة التي يتعامل بها بعض الفرقاء في ما بينهم، واستعادتهم ممارسات شائنة وتطبيقها على ضحاياهم، كاستخراج الجثامين من توابيتها والتمثيل به.
ويلفت كذلك إلى استعانة كل طرف في حربه ضد الأطراف الأخرى بنصوص تضفي قداسة على حربه، وتشرعن له متاهة دربه الدموية، لتبقى المتاهة الدائرة في بقعة موبوءة بالأحقاد والضغائن أرضا مسمومة بكل ما من شأنه تعميق الخلافات وتسعير الحروب وتفعيل العداوات وتجديدها.
يقتبس كمال الدين اسم روايته من اسم فيلم كان بطله قد أخرجه سابقا، وتم تحويره وتغييره بطريقة عكست الرسالة المراد إيصالها، وكان التصحر كناية عن تحويل حضارة بلاد ما بين النهرين إلى هباء.
ويجد الراوي نفسه أمام متاهة التسمية نفسها، والجمع بين النقائض، بحيث إن المياه التي يساهم وجودها في التخفيف من التصحر أو وقفه وتحجيمه غالبا مصابة هي نفسها بالتصحر، وهو دلالة على التسمم والتلوث اللذين يسودان العلاقات بين أبناء الرافدين أنفسهم في جانب ما.
يستعين كمال الدين في روايته -التي اختيرت ضمن القائمة الطويلة لـ”البوكر العربية” 2016- بصور وخرائط وملصقات، يكون مهموما بالتجريب الفني والأسلوبي، يلجأ إلى الكولاج ليكون وسيلة لراويه كي يؤكد مزاعمه الروائية المحاكية للواقع، ويدعم السرد الذي يدور في حلقة تكاد تشبه المتاهة التي تدور على نفسها بأسانيد حية.
م.ج